تشهد ساحة جامع الفنا بمراكش خلال الأشهر الأخيرة أشغالًا كبرى لإعادة التهيئة، في مشروع مشترك بين مؤسسات رسمية محلية ووطنية، بهدف الحفاظ على القيمة التاريخية والرمزية لهذا الفضاء الذي صنفته اليونسكو تراثًا إنسانيًا عالميًا سنة 2008. وتأتي هذه العملية في إطار رؤية جديدة تروم تعزيز البنية التحتية للساحة، مع احترام طابعها الفني والثقافي الذي يميزها عن باقي المراكز الحضرية في العالم.
مشروع تهيئة ساحة جامع الفنا… رؤية جديدة لحماية التراث
انطلقت أشغال إعادة تهيئة ساحة جامع الفنا خلال شهر يوليوز الماضي، بعد دراسة دقيقة لطبيعة الساحة وأنشطتها، وذلك تحت إشراف وزارة الشباب والثقافة والتواصل، والوكالة الحضرية، والمجلس الجماعي لمدينة مراكش. ويعد هذا المشروع واحدًا من أكبر العمليات التي تم تنفيذها داخل الفضاء التاريخي خلال السنوات الأخيرة، بميزانية بلغت 68 مليون درهم.
يهدف هذا البرنامج إلى صيانة المكونات التراثية والمعمارية للساحة، وضمان استمرار أنشطتها اليومية التي تعتبر حجر الزاوية في هوية المدينة. وقد حرصت الجهات المشرفة على عدم إيقاف الحركة التجارية والفنية داخل الساحة، حيث استمرت الحلقات الشعبية وعربات المأكولات وباعة العصائر في أداء دورهم الحيوي باستثناء بعض المساحات التي يشملها التدخل الهندسي مباشرة.
تجديد شبكات أساسية… مرحلة أولى مفصلية
شهدت المرحلة الأولى من الأشغال تجديدًا كاملًا لشبكات الصرف الصحي، والكهرباء، والإنترنت، وهي خطوة جوهرية لضمان استدامة النشاط داخل الساحة وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين والزوار. وتم تنفيذ هذه العملية وفق معايير حديثة، مع الحرص على تجنب أي تأثير على الأنشطة اليومية، نظرًا للحركية الكبيرة التي تعرفها الساحة على مدار اليوم.
كما شكلت المرحلة الأولى مناسبة لمعالجة بعض الإشكالات التقنية التي كانت تظهر بشكل موسمي، خاصة خلال الفترات المطيرة، حيث كانت الشبكات القديمة تعاني من الضغط الكبير مما يؤثر على نظافة الساحة وجودة بيئتها الحضرية.
تبليط الساحة بأجود أنواع الرخام… لمسة جمالية تعيد الألق
دخل المشروع اليوم مرحلته الثانية، المتمثلة في تبليط أرضية الساحة باستخدام رخام عالي الجودة، يحترم الطابع التقليدي والتراثي للمكان. وقد اعتمدت الفرق التقنية على مواد متينة تتلاءم مع حجم الحركة اليومية داخل الفضاء وتضمن عمرًا أطول للتهيئة.
وتركز هذه المرحلة على تعزيز الجانب الجمالي للساحة، بما يتماشى مع صورتها الرمزية باعتبارها أحد أكثر الفضاءات السياحية شهرة في العالم، وأيقونة المدينة الحمراء التي تستقطب ملايين الزوار كل سنة. كما يتم العمل على إعادة بناء المسارات الداخلية والخارجية للساحة بطريقة تسمح بتنظيم أفضل لحركة الزوار والتجار.
تجديد الإنارة العمومية بهوية تاريخية
في إطار الحفاظ على جمالية الفضاء خلال الليل، يشمل المشروع إعادة تصميم الإنارة العمومية، مع الاعتماد على تجهيزات حديثة موفرة للطاقة، وفي الوقت نفسه تحافظ على الهوية التقليدية للإنارة التي تميز المدينة العتيقة. وسيتيح هذا التجديد رؤية أوضح للزوار وتحسين الإحساس بالأمان، إضافة إلى منح الساحة مظهرًا أكثر إشعاعًا خلال الفترات المسائية التي تشهد بها ذروة النشاط.
الحفاظ على الواجهات المعمارية وإعادة تنظيم الفضاءات
تولي الجهات المشرفة على المشروع أهمية كبيرة للحفاظ على الواجهات التقليدية للمباني المحيطة بالساحة، التي تعتبر جزءًا من التراث العمراني لمدينة مراكش. وتم تحديد العلو المسموح به لهذه المباني في خمسة طوابق كحد أقصى، بهدف حماية المشهد البصري العام للساحة ومنع أي تغييرات قد تخل بهويتها التاريخية.
كما يتم العمل على إعادة تنظيم تموقع عربات الأكل الشعبية، وباعة العصائر، وأصحاب الحَلَقات، والنقاشات بالحناء، دون إخراج أي منهم من فضاء الساحة، احترامًا لكونهم جزءًا من موروثها الثقافي الحي. ويهدف هذا التنظيم الجديد إلى ضمان انسيابية الحركة وتوفير فضاءات آمنة ومرتبة لكل الفاعلين.
الحلقة… قلب ساحة جامع الفنا ينبض من جديد
من بين الإضافات المميزة في المشروع توسيع المساحة المخصصة لفن الحلقة، هذا الموروث الفرجوي الذي يمنح الساحة روحها الخاصة. ووفق التصور الجديد، سيستفيد ممارسو فن الحلقة من حوالي 80% من مساحة الساحة، ما سيمكنهم من تقديم عروضهم في ظروف أفضل، وتحسين التفاعل مع الجمهور المحلي والدولي.
وأوضح عادل ودغيري، الكاتب العام لكونفدرالية جمعيات فن الحلقة بالساحة، أن هذا التوسيع سيوفر إمكانيات أكبر للفنانين الشعبيين، ويسمح بتطوير عروضهم وإعادة إحياء تقاليد الفرجة الشعبية بطريقة تحترم خصوصيات التراث المغربي.
تجار الساحة… مشروع ينعش الحركة الاقتصادية
اعتبر عدد من التجار والحرفيين أن مشروع التهيئة يمثل إضافة نوعية ستنعكس إيجابًا على الحركة الاقتصادية بالساحة. وفي هذا السياق، أكد عبد الحق بلخادير، رئيس جمعية تجار السوق الجديد، أن هذه التغييرات ستساعد على تحسين ظروف العمل بالنسبة للتجار والمهنيين، كما ستساهم في تعزيز جاذبية الساحة لدى السياح المغاربة والأجانب.
ويرى المتتبعون للشأن المحلي أن هذه التهيئة ستعيد ترتيب العلاقة بين الفضاء التراثي والأنشطة الاقتصادية داخله، عبر خلق فضاءات واضحة ومهيكلة تضمن راحة الزوار وتحفّز التجار على تطوير خدماتهم.
موعد فتح الساحة في وجه الزوار
أكد محمد الإدريسي، النائب الأول لرئيسة المجلس الجماعي لمراكش، أن الأشغال تسير وفق الجدول الزمني المحدد، ومن المتوقع فتح الساحة بشكل كامل خلال شهري يناير أو فبراير المقبلين. وستكون الساحة جاهزة لاستقبال زوارها في حلة جديدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتعيد لها رونقها كواحدة من أشهر الساحات في العالم.
