شهدت أشغال المهرجان الدولي للفيلم بمراكش انطلاقة قوية مع انعقاد ندوة صحافية استبقت العروض الرسمية للأفلام المتنافسة، حيث فتح أعضاء لجنة التحكيم الثمانية قلوبهم لأسئلة الصحافيين، ليكشفوا عن رؤى فنية وإنسانية عميقة حول صناعة السينما ومستقبلها، وعن دور الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية، إضافة إلى التأكيد على أهمية "شرارة الأعمال الأولى" لدى المخرجين الشباب.
وقد شكّلت هذه الندوة حدثًا بارزًا في الدورة الحالية، لما حملته من نقاشات حيوية جمعت بين التجربة، والشغف، والقلق الإبداعي، والرهان على المستقبل.

بونغ جون هو… رئيس لجنة التحكيم وحلم قديم يتحقق في مراكش

أعرب المخرج الكوري الجنوبي الشهير بونغ جون هو، رئيس لجنة التحكيم، عن سعادته الكبيرة بالمشاركة في هذه الدورة، مؤكدًا أن المهرجان الدولي للفيلم بمراكش كان دائمًا محطة يحلم بحضورها.

وأوضح المخرج الحائز على جائزة الأوسكار عن رائعته "Parasite" أن علاقته بالمهرجان تعود إلى سنوات، حين كان فيلم كوري جنوبي غير معروف نسبيًا قد فاز بالجائزة الكبرى في دورة سابقة، برئاسة مارتن سكورسيزي وعضوية ماريون كوتيار.
ذلك الفوز، كما قال، فتح للفيلم باب الانتشار العالمي ومنحه فرصة نادرة للاكتشاف من جمهور أوسع.

وأكد:
"ما يميز مهرجان مراكش هو أنه يمنحنا فرصة لقاء المواهب الشابة ومشاهدة أفلامهم الأولى… وهذا أمر لا يقدّر بثمن."

وشدد رئيس لجنة التحكيم على أهمية الحفاظ على "شرارة البدايات" لدى المخرجين، موضحًا أن الفيلم الأول غالبًا ما يحمل جرأة واندفاعًا وشيئًا من الجنون الإبداعي الذي لا يتكرر بسهولة.
واعتبر أن البحث عن هذه الطاقة هو ما يجعله متحمسًا لمشاهدة الأفلام المتنافسة هذا العام، قائلاً:
"أنا هنا لأرى تلك الجرأة… لأشعر بالطاقة الخام التي لا تستطيع أي صناعة أن تصنعها لاحقًا."

جوليا دوكورناو… عندما يتحول عضو لجنة التحكيم إلى مكتشف وليس ناقدًا

المخرجة الفرنسية جوليا دوكورناو، صاحبة أسلوب بصري جريء وأعمال أثارت الكثير من الجدل الفني، قدّمت موقفًا لافتًا في الندوة الصحفية.
فهي ترفض، كما قالت، أن تقوم بدور "الناقدة" أثناء التحكيم.

وأضافت:
"أُصبح عمياء لكي أكتشف. لا أريد الحكم انطلاقًا من مخزون معرفي مسبق، بل من إحساس مُباشر بالسؤال: ما معنى السينما؟"

تصرّ دوكورناو على أن التحكيم ليس تمرينًا نقديًا، بل تجربة مشاهدة نقية، تستعيد فيها علاقتها الأولى بالسينما، تلك التي تتجاوز التحليل نحو الشعور.

جينا أورتيغا… شغف التجربة الأولى داخل لجنة التحكيم

من جهتها، أكدت الممثلة الأميركية جينا أورتيغا أن مشاركتها في لجنة التحكيم هي تجربة مهمة وشخصية للغاية، مشددة على أن أولويتها هي أن تعيش الأفلام كما لو كانت مشاهدًا عاديًا.
وأوضحت أنها امتنعت عن مشاهدة أي مواد ترويجية أو ملخصات قبل حضور العروض.

وقالت في الندوة:
"هذه هي المرة الأولى لي في لجنة تحكيم، وأردت أن تكون التجربة صافية. دورنا أن ندخل إلى القاعة المظلمة، ونمنح أنفسنا للأفلام بالكامل… هذا جميل ورائع."

الذكاء الاصطناعي يدخل النقاش… بين الريبة والفضول

لم يكن بالإمكان تفادي سؤال حول دخول الذكاء الاصطناعي إلى العملية الإبداعية والإنتاجية في السينما.
وقد أتت ردود أعضاء لجنة التحكيم مختلفة، لكنها في الغالبية متقاربة في الجوهر.

بونغ جون هو: الذكاء الاصطناعي جعلنا نتساءل عمّا يميزنا كبشر

طرح الرئيس الكوري للجنة التحكيم رؤية فلسفية أكثر منها تقنية.
فبالنسبة له، النقاش حول الذكاء الاصطناعي كان مفيدًا لأنه أعاد طرح سؤال الهوية الإبداعية للإنسان:

"لقد دفعنا الذكاء الاصطناعي إلى التساؤل عن جوهرنا… ماذا نملك نحن ولا تستطيع الآلة تعويضه؟"

يرى بونغ جون هو أن الذكاء الاصطناعي قد يكون مفيدًا، لكن قيمته الحقيقية تكمن في كشف الحدود بين الإنسان والآلة، وفي تعزيز الوعي بما يجعل المبدع إنسانًا لا يُستبدل.

سيلين سونغ: الذكاء الاصطناعي مساعد… لكنه ليس بديلًا للعاطفة

المخرجة وكاتبة السيناريو سيلين سونغ قدمت موقفًا دقيقًا، شدد على ضرورة عدم المبالغة في اعتبار الذكاء الاصطناعي تهديدًا، مع التأكيد في الوقت نفسه على حماية الجوهر الإنساني للعمل الفني.

وقالت:
"قد يساعد الذكاء الاصطناعي في بعض الجوانب التقنية، لكنه لن يُعوض حساسية الممثل. دورنا الأساسي هو الدفاع عن الإنسانية داخل الفيلم."

أثارت كلماتها تفاعلًا كبيرًا لدى الحضور، لأنها أعادت التأكيد على أن السينما ليست مجرد تقنية بل تجربة شعورية.

جينا أورتيغا: سحر السينما في العاطفة… وليس في الخوارزميات

قدمت أورتيغا موقفًا صريحًا وأكثر عاطفية، إذ قالت إن الذكاء الاصطناعي لن يكون قادرًا أبدًا على تعويض البشر في السينما.
وأوضحت:
"نحن نحب السينما لأخطائها وعيوبها ومفاجآتها… لا يمكن لآلة أن تُجسد ذلك."

وشددت على أن أداء الممثل هو تجربة إنسانية لا يمكن تكرارها رقميًا، مهما بلغت قوة الخوارزميات.

جوليا دوكورناو: الذكاء الاصطناعي أداة… وليس بديلًا

اختتمت دوكورناو النقاش بتأكيد أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يبقى ضمن حدود دوره التقني، محذرة من مغبة استخدامه اقتصاديًا لتقليص التكاليف على حساب العاملين في القطاع.

وقالت:
"قد يكون مغريًا لبعض المنتجين تقليص تكلفة العمل الفني عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن هذا خطأ تمامًا. لا يمكن تعويض الممثلين أو التقنيين… ولا يجب أن يحدث ذلك."

شرارة البدايات… روح الدورة الثانية للمهرجان

مفهوم "شرارة البدايات" كان ثيمة أساسية في حديث أعضاء لجنة التحكيم، حيث أكد معظمهم أن اكتشاف الأفلام الأولى للمخرجين هو ما يمنح هذه الدورة قيمتها الخاصة.

يرى بونغ جون هو أن الفيلم الأول عادة ما يحمل جرأة لا تتكرر، وأن على المخرجين الشباب حماية تلك الشرارة من استهلاك السوق ومن ضغط الصناعات الكبيرة.
كما أكدت دوكورناو أن تلك البدايات غالبًا ما تُذكّرها بأصل حبّها للسينما نفسها، بينما اعتبرت أورتيغا أن هذه الأعمال تُتيح فرصة مشاهدة سينما حرة وغير مروّضة بعد.

هذا الاهتمام بالمواهب الناشئة يعكس رؤية المهرجان في ترسيخ دوره كمنصة عالمية لاكتشاف الأصوات الجديدة في السينما، وإعطائها فضاء للتألق.

مراكش… المدينة التي تحتضن السينما والعالم

لا يمكن الحديث عن المهرجان الدولي للفيلم بمراكش دون الإشارة إلى سحر المدينة نفسها، التي تحولت خلال أيامه إلى فضاء يلتقي فيه المخرجون، الممثلون، النقاد، والصحافيون من مختلف أنحاء العالم.
فمراكش ليست مجرد مكان للعرض، بل فضاء للحوار واللقاء والتفاعل.

تُعرف المدينة بكونها ملتقى الثقافات، وهذا ما ينعكس مباشرة على روح المهرجان، الذي يجمع بين الخبرة العالمية والجرأة الإبداعية الشابة، بين التقنية المتطورة والأسئلة الفلسفية التي لا تنتهي.

مهرجان بمستوى التحديات الجديدة للسينما العالمية

أبرزت الندوة الصحافية للجنة التحكيم أن الدورة الثانية من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش ليست مجرد حدث سينمائي عابر، بل فضاء حقيقي لإعادة التفكير في علاقة السينما بالعالم.
فمن سؤال الذكاء الاصطناعي إلى دور الشباب في صناعة المشهد الجديد، ومن تجربة التحكيم إلى عشق الظلام الذي يولد فيه الفيلم، بدا واضحًا أن السينما ما تزال فنًا حيًا، يثير الأسئلة أكثر مما يقدم الأجوبة.

وبين مواقف أعضاء لجنة التحكيم، ورسائلهم للمخرجين الشباب، واستحضارهم للإنسان داخل العملية الإبداعية، برز التزام واضح بالدفاع عن السينما كفنّ قائم على العاطفة والتجربة الإنسانية والجرأة، مهما تقدمت التقنيات.


الموضوع التالي
هذا آخر المواضيع
الموضوع السابق
رسالة أقدم