يشكل التراث الرياضي للدار البيضاء جزءًا أصيلاً من ذاكرتها الحضرية وهويتها الجماعية، إذ لم تكن الرياضة يومًا مجرد نشاط ترفيهي داخل المدينة، بل عنصرًا فاعلًا في تشكيل عمرانها وفضاءاتها العامة وتاريخها الاجتماعي. في هذا السياق، أعلنت جمعية "كازاميموار" (ذاكرة الدار البيضاء) عن إطلاق برنامجها الثقافي "الرياضة، المدينة والتراث"، كمبادرة نوعية تروم إعادة الاعتبار لهذا التراث المنسي، وربط الماضي الرياضي للمدينة برهاناتها الحضرية والثقافية المعاصرة، خاصة في ظل الاستعدادات التي تعيشها المملكة لاحتضان كأس إفريقيا للأمم 2025.

إطلاق برنامج ثقافي يعيد الاعتبار للذاكرة الرياضية

احتضن المركز الأمريكي للفنون بالدار البيضاء، يوم الاثنين 15 دجنبر، لقاءً ثقافيًا أعلنت خلاله جمعية "كازاميموار" عن إطلاق برنامج "الرياضة، المدينة والتراث"، وهو مشروع يمتد إلى غاية 15 يناير المقبل، ويهدف إلى تسليط الضوء على العلاقة الوثيقة التي تجمع بين الرياضة والتاريخ الحضري والتراث المعماري للعاصمة الاقتصادية. ويأتي هذا البرنامج في سياق وطني وقاري متميز، يتزامن مع احتضان المغرب لنهائيات كأس إفريقيا للأمم 2025، ما يمنحه بعدًا رمزيًا إضافيًا، حيث تصبح الرياضة مدخلًا لقراءة المدينة وتاريخها.

قراءة جديدة للتراث الرياضي للدار البيضاء

يقترح برنامج "الرياضة، المدينة والتراث" مقاربة ثقافية شمولية، تسعى إلى تجاوز الصورة النمطية التي تختزل الدار البيضاء في كونها مدينة لكرة القدم فقط. فمن خلال معرض وثائقي، وندوات فكرية، وعروض سينمائية، وجولات إرشادية، يقدم البرنامج قراءة جديدة للتراث الرياضي للدار البيضاء، باعتباره مكونًا أساسيًا من مكونات الهوية الحضرية والذاكرة الجماعية للمدينة. ويبرز هذا التوجه كيف ساهمت الرياضة، بمختلف أنواعها، في تشكيل الفضاءات العمرانية، وفي خلق ديناميات اجتماعية وثقافية داخل الأحياء والميادين والساحات.

الرياضة كفاعل في بناء الهوية الحضرية

لم تكن الملاعب والقاعات الرياضية مجرد بنايات إسمنتية داخل النسيج الحضري للدار البيضاء، بل فضاءات للاندماج الاجتماعي والتفاعل الثقافي، وملتقيات أنتجت ذاكرة جماعية مشتركة بين أجيال متعاقبة. ويؤكد برنامج "الرياضة، المدينة والتراث" أن الرياضة لعبت دورًا محوريًا في صياغة الهوية الحضرية للمدينة، سواء من خلال أسماء الملاعب المرتبطة بشخصيات وطنية بارزة، أو عبر الأحداث الرياضية التي طبعت وجدان الساكنة ورسخت شعور الانتماء للمكان.

معرض "التراث الرياضي للدار البيضاء"

على هامش إطلاق البرنامج، قدمت جمعية "كازاميموار" معرضًا بعنوان "التراث الرياضي للدار البيضاء"، يستعرض تاريخ وتطور عدد من الفضاءات الرياضية التي شكلت محطات بارزة في ذاكرة المدينة. ويضم المعرض مواد بصرية ووثائقية تسلط الضوء على معالم رياضية من قبيل مركب محمد الخامس، وملعب الأب جيكو، وملعب العربي بن مبارك، وحلبة الدراجات (الفيلودروم)، والمركب الرياضي "الإديال"، وفضاء "لاكازابلانكيز"، وملعب الطاس، ودار الشباب بالحي المحمدي، إلى جانب فضاءات ممارسة الكرة الحديدية، والمركب الكبير الحسن الثاني.

توثيق تطور المعمار الرياضي

يسعى هذا المعرض إلى إبراز تطور المعمار الرياضي بالدار البيضاء، وكيف تفاعل مع التحولات العمرانية والاجتماعية التي عرفتها المدينة منذ بداية القرن العشرين. فمن ملاعب بسيطة شُيدت لخدمة أحياء محددة، إلى مركبات رياضية كبرى احتضنت تظاهرات وطنية ودولية، يكشف المعرض عن مسار طويل يعكس تطور الرؤية الحضرية وأهمية الرياضة في التخطيط العمراني. كما يبرز الدور الذي لعبته هذه البنيات في خلق فضاءات للعيش المشترك وتعزيز الروابط الاجتماعية.

فضاءات منسية تعود إلى الواجهة

في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أكد رئيس جمعية "كازاميموار"، كريم الرويسي، أن هذا البرنامج يروم التعريف بغنى وتنوع المشهد الرياضي بالدار البيضاء، مشددًا على أن المدينة ليست فقط عاصمة لكرة القدم، بل حاضرة متعددة الرياضات، تحتضن فضاءات متجذرة في الذاكرة الجماعية. وأوضح أن عددًا من هذه المواقع التراثية ما يزال غير معروف بشكل كاف، ولا يعرفه أحيانًا سوى الرياضيون أو سكان بعض الأحياء، رغم قيمته الثقافية والتاريخية الكبيرة.

بنيات تحتية صنعت أبطالًا وذاكرة

وأضاف الرويسي أن المبادرة تسلط الضوء على بنيات تحتية تاريخية لعبت دورًا محوريًا في تاريخ الرياضة الوطنية، من بينها حلبة الدراجات بالدار البيضاء، المرتبطة بتاريخ سباق الدراجات وطواف المغرب، وملعب العربي بن مبارك، الذي يعد من أقدم ملاعب المدينة، والمركب الرياضي "الإديال"، الذي احتضن تدريبات أبطال مغاربة توجوا بميداليات أولمبية. كما توقف عند فضاءات ممارسة الكرة الحديدية التي أنجبت أبطالًا عالميين، وأسهمت في إشعاع المغرب دوليًا في هذه الرياضة.

ندوات فكرية حول المعمار والهوية

من جهتها، أوضحت منسقة جمعية "كازاميموار"، سارة بوداود، أن برنامج "الرياضة، المدينة والتراث" لا يقتصر على المعرض فقط، بل يشمل تنظيم ندوات فكرية تناقش قضايا المعمار الرياضي والهوية الحضرية، وتسائل مكانة الرياضة في السياسات الثقافية والحضرية. ومن المرتقب أن تُنظم هذه الندوات يومي 7 و8 يناير 2026، بمشاركة باحثين ومهندسين معماريين ومهتمين بتاريخ المدينة.

عروض سينمائية تلامس الحياة اليومية

يتضمن البرنامج أيضًا عروضًا لأفلام مغربية تتناول مكانة الرياضة في الحياة اليومية للمغاربة، وكيف تتقاطع الممارسة الرياضية مع التحولات الاجتماعية والثقافية. وتشكل هذه العروض فرصة لفتح نقاشات حول تمثلات الرياضة في السينما الوطنية، ودورها في نقل قصص الأحياء والفضاءات الشعبية، وتعزيز الوعي بأهمية التراث الرياضي كجزء من الذاكرة الجماعية.

جولات إرشادية تربط الذاكرة بالمجال

وفي إطار تقريب التراث الرياضي من الجمهور، أعلنت سارة بوداود عن تنظيم جولات إرشادية يومي 10 و11 يناير المقبل، تربط بين المدينة العتيقة وحي الأحباس وعدد من الفضاءات الرياضية الرمزية بالدار البيضاء. ويهدف هذا المسار الحضري إلى إبراز التقاطع بين الذاكرة والمجال والممارسات الرياضية، وإتاحة الفرصة للمشاركين لاكتشاف المدينة من زاوية جديدة، تمزج بين التاريخ والمعمار والرياضة.

عمل بحثي وأرشيف بصري غني

يمثل معرض "التراث الرياضي للدار البيضاء" ثمرة عمل بحثي أنجزته اللجنة العلمية لجمعية "كازاميموار"، بالاعتماد على مختارات دقيقة من الأرشيفات الفوتوغرافية، خاصة التابعة لمؤسسة البنك الشعبي وصندوق "فلاندران"، إلى جانب بنوك صور دولية. كما تم إنجاز هذا العمل بشراكة مع مصورة فوتوغرافية مغربية شابة، ما أضفى على المعرض بعدًا فنيًا ومعاصرًا، يجمع بين التوثيق والإبداع البصري.

تجربة ثقافية لإعادة اكتشاف المدينة

من خلال برنامج "الرياضة، المدينة والتراث"، تقترح جمعية "كازاميموار" تجربة ثقافية متميزة، تدعو ساكنة الدار البيضاء وزوارها إلى إعادة اكتشاف المدينة عبر ملاعبها وفضاءاتها الرياضية، باعتبارها شواهد حية على تاريخها وتحولاتها. كما يساهم هذا البرنامج في تعزيز الوعي بأهمية صون التراث الرياضي وإدماجه ضمن السياسات الحضرية والثقافية، بما يضمن نقله للأجيال القادمة.

التراث الرياضي ورهانات المستقبل

يأتي هذا البرنامج ليؤكد أن التراث الرياضي للدار البيضاء ليس مجرد ذاكرة من الماضي، بل رافعة ثقافية وتنموية قادرة على المساهمة في بناء مستقبل حضري أكثر انسجامًا. وفي ظل التحولات الكبرى التي تعرفها المدينة، يشكل إدماج هذا التراث في الرهانات المعاصرة خطوة أساسية نحو مدينة تحترم ذاكرتها، وتستثمر ماضيها لبناء حاضر ومستقبل أكثر إشعاعًا.